فصل: آحاديث موضوعة في التوسل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وأما السفر إلى مسجده للصلاة فيه والسفر إلى المسجد الأقصى للصلاة فيه فهو مستحب، والسفر إلى الكعبة للحج فواجب‏.‏ فلو سافر أحد السفر الواجب والمستحب لم يكن مثل واحد من الصحابة الذين سافروا إليه فى حياته، فكيف بالسفر المنهى عنه ‏؟‏ وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره صلوات اللّه وسلامه عليه، أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين، لم يكن عليه / أن يوفى بنذره، بل ينهى عن ذلك‏.‏ ولو نذر السفر إلى مسجده أو المسجد الأقصى للصلاة ففيه قولان للشافعى ‏:‏

أظهرهما عنه‏:‏ يجب ذلك وهو مذهب مالك وأحمد‏.‏

والثانى‏:‏ لا يجب وهو مذهب أبى حنيفة؛ لأن من أصله أنه لا يجب من النذر إلا ما كان واجبا بالشرع، وإتيان هذين المسجدين ليس واجبا بالشرع فلا يجب بالنذر عنده ‏.‏

وأما الأكثرون فيقولون‏:‏ هو طاعة للّه، وقد ثبت فى صحيح البخارى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من نَذَر أن يطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أن يعصى اللّه فلا يعصه‏)‏‏.‏

وأما السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين فلا يجب بالنذر عند أحد منهم لأنه ليس بطاعة، فكيف يكون من فعل هذا كواحد من أصحابه ‏؟‏ وهذا مالك كره أن يقول الرجل‏:‏ زرت قبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، واستعظمه‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ذلك ككراهية زيارة القبور، وقيل‏:‏ لأن الزائر أفضل من المزور، وكلاهما ضعيف عند أصحاب مالك ‏.‏

والصحيح أن ذلك لأن لفظ زيارة القبر مجمل يدخل فيها الزيارة البدعية التى هى من جنس الشرك، فإن زيارة قبور الأنبياء وسائر المؤمنين على وجهين ـ كما تقدم ذكره ـ‏:‏ /زيارة شرعية، وزيارة بدعية ‏.‏

فالزيارة الشرعية يقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات فيصلى عليه صلاة الجنازة، فهذه الزيارة الشرعية‏.‏

والثانى‏:‏ أن يزورها كزيارة المشركين وأهل البدع لدعاء الموتى وطلب الحاجات منهم، أو لاعتقاده أن الدعاء عند قبر أحدهم أفضل من الدعاء فى المساجد والبيوت، أو أن الإقسام بهم على اللّه وسؤاله سبحانه بهم أمر مشروع يقتضى إجابة الدعاء، فمثل هذه الزيارة بدعة منهى عنها‏.‏

فإذا كان لفظ ‏[‏الزيارة‏]‏ مجملاً يحتمل حقاً وباطلاً، عدل عنه إلى لفظ لا لبس فيه كلفظ ‏"‏السلام‏"‏ عليه، ولم يكن لأحد أن يحتج على مالك بما روى فى زيارة قبره أو زيارته بعد موته، فإن هذه كلها أحاديث ضعيفة بل موضوعة، لا يحتج بشىء منها فى أحكام الشريعة‏.‏

والثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما بين بيتى ومنبرى روضة من رياض الجنة‏)‏ هذا هو الثابت فى الصحيح، ولكن بعضهم رواه بالمعنى فقال‏:‏ قبرى‏.‏ وهو صلى الله عليه وسلم حين قال هذا القول لم يكن قد قبر بعد ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ ولهذا لم يحتج بهذا أحد من الصحابة، لما تنازعوا فى موضع دفنه، ولو كان هذا عندهم لكان نصاً فى محل النزاع‏.‏ ولكن دفن فى حجرة عائشة فى الموضع الذى مات فيه، بأبى هو وأمى ـ صلوات الله عليه وسلامه ‏.‏

ثم لما وسع المسجد فى خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان نائبه على المدينة / عمر بن عبد العزيز أمره أن يشترى الحجر ويزيدها فى المسجد، وكانت الحجر من جهة المشرق والقبلة فزيدت فى المسجد ودخلت حجرة عائشة فى المسجد من حينئذ، وبنوا الحائط البرانى مُسَنَّما محرفاً، فإنه ثبت فى صحيح مسلم من حديث أبى مرثد الغنوى أنه قال صلى الله عليه وسلم لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها‏)‏ لأن ذلك يشبه السجود لها، وإن كان المصلى إنما يقصد الصلاة لله تعالى‏.‏ وكما نهى عن اتخاذها مساجد ونهى عن قصد الصلاة عندها، وإن كان المصلى إنما يقصد الصلاة لله سبحانه والدعاء له‏.‏ فمن قصد قبور الأنبياء والصالحين لأجل الصلاة والدعاء عندها، فقد قصد نفس المحرم الذى سد الله ورسوله ذريعته، وهذا بخلاف السلام المشروع، حسبما تقدم‏.‏

وقد روى سفيان الثورى عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن لله ملائكة سياحين فى الأرض يبلغونى عن أمتى السلام‏)‏ رواه النسائى وأبو حاتم فى صحيحه، وروى نحوه عن أبى هريرة‏.‏ فهذا فيه أن سلام البعيد تبلغه الملائكة ‏.‏

وفى الحديث المشهور الذى رواه أبو الأشعث الصنعانى عن أوس بن أوس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أكثروا على من الصلاة فى كل يوم جمعة، فإن صلاة أمتى تعرض على يومئذ، فمن كان أكثرهم على صلاة كان أقربهم منى منزلة‏)‏‏.‏

وفى مسند الإمام أحمد‏:‏ حدثنا شُرَيح، حدثنا عبد الله بن نافع عن ابن أبى / ذئب، عن المقبرى، عن أبى هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا قبرى عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغنى‏)‏ ورواه أبو داود‏.‏ قال القاضى عياض‏:‏ وروى أبو بكر بن أبى شيبة عن أبى هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من صلى علي عند قبرى سمعته‏.‏ ومن صلى علي نائيًا أبلغته‏)‏‏.‏

وهذا قد رواه محمد بن مروان السدى عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة، وهذا هو السدى الصغير وليس بثقة، وليس هذا من حديث الأعمش ‏.‏

وروى أبو يعلى الموصلى فى مسنده، عن موسى بن محمد بن حبان، عن أبى بكر الحنفى‏:‏ حدثنا عبد الله بن نافع، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن سمعت الحسن بن على قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلوا فى بيوتكم ولا تتخذوها قبورا، ولا تتخذوا بيتى عيداً‏.‏ صلوا على وسلموا فإن صلاتكم وسلامكم يبلغنى‏)‏‏.‏

وروى سعيد بن منصور فى سننه أن عبد الله بن حسن بن حسن بن على بن أبى طالب رأى رجلا يكثر الاختلاف إلى قبر النبى صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ يا هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا قبرى عيداً، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغنى‏)‏ فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء‏.‏

وروى هذا المعنى عن على بن الحسين زين العابدين عن أبيه عن على بن أبى طالب، ذكره أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسى الحافظ فى مختاره الذى / هو أصح من صحيح الحاكم‏.‏ وذكر القاضى عياض عن الحسن بن على قال‏:‏ إذا دخلت فسلم على النبى صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا بيتى عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً، وصلوا على حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنتم‏)‏‏.‏

ومما يوهن هذه الحكاية أنه قال فيها‏:‏ ‏(‏ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة‏)‏ إنما يدل على أنه يوم القيامة تتوسل الناس بشفاعته، وهذا حق كما تواترت به الأحاديث، لكن إذا كان الناس يتوسلون بدعائه وشفاعته يوم القيامة كما كان أصحابه يتوسلون بدعائه وشفاعته فى حياته، فإنما ذاك طلب لدعائه وشفاعته، فنظير هذا ـ لو كانت الحكاية صحيحة ـ أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فى الدنيا عند قبره‏.‏

ومعلوم أن هذا لم يأمر به النبى صلى الله عليه وسلم ولا سنه لأمته، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين لا مالك ولا غيره من الأئمة، فكيف يجوز أن ينسب إلى مالك مثل هذا الكلام الذى لا يقوله إلا جاهل لا يعرف الأدلة الشرعية ولا الأحكام المعلومة أدلتها الشرعية، مع علو قدر مالك وعظم فضيلته وإمامته، وتمام رغبته فى اتباع السنة وذم البدع وأهلها ‏؟‏ وهل يأمر بهذا أو يشرعه إلا مبتدع ‏؟‏ فلو لم يكن عن مالك قول يناقض هذا، لعلم أنه لا يقول مثل هذا ‏.‏

ثم قال فى الحكاية‏:‏ ‏[‏استقبله واستشفع به فيشفعك اللّه‏]‏ والاستشفاع به / معناه فى اللغة‏:‏ أن يطلب منه الشفاعة كما يستشفع الناس به يوم القيامة، وكما كان أصحابه يستشفعون به‏.‏ ومنه الحديث الذى فى السنن أن أعرابياً قال‏:‏ يا رسول الله، جهدت الأنفس وجاع العيال، وهلك المال، فادع اللّه لنا، فإنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على اللّه‏.‏ فسبح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك فى وجوه أصحابه وقال‏:‏ ‏(‏ويحك أتدرى ما تقول ‏؟‏ شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه‏)‏، وذكر تمام الحديث ‏.‏

فأنكر قوله‏:‏ ‏[‏نستشفع باللّه عليك‏]‏ ومعلوم أنه لا ينكر أن يسأل المخلوق باللّه أو يقسـم عليه باللّه، وإنما أنكـر أن يكون الله شـافعاً إلى المخلوق؛ ولهـذا لم ينكـر قولـه‏:‏ ‏(‏نستشفع بك على اللّه‏)‏ فإنه هو الشافع المشفع ‏.‏

وهم ـ لو كانت الحكاية صحيحة ـ إنما يجيئون إليه لأجل طلب شفاعته صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال فى تمام الحكاية‏:‏ ‏{‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ‏}‏ الآية ‏[‏ النساء‏:‏ 64 ‏]‏، وهؤلاء إذا شرع لهم أن يطلبوا منه الشفاعة والاستغفار بعد موته، فإذا أجابهم فإنه يستغفر لهم، واستغفاره لهم دعاء منه وشفاعة أن يغفر الله لهم ‏.‏

وإذا كان الاستشفاع منه طلب شفاعته فإنما يقال فى ذلك‏:‏ ‏[‏استشفع به فيشفعه الله فيك‏]‏ لا يقال‏:‏ فيشفعك الله فيه‏.‏ وهذا معروف الكلام ولغة النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر العلماء يقال‏:‏ شفع فلان فى فلان فشفع فيه‏.‏فالمشفع الذى يشفعه المشفوع إليه هو الشفيع المستشفع به، / لا السائل الطالب من غيره أن يشفع له، فإن هذا ليس هو الذى شفع، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الشفيع المشفع، ليس المشفع الذى يستشفع به‏.‏ ولهذا يقول فى دعائه‏:‏ يا رب شفعنى، فيشفعه اللّه، فيطلب من الله سبحانه أن يشفعه لا أن يشفع طالبى شفاعته، فكيف يقول‏:‏ واستشفع به فيشفعك الله ‏؟‏ وأيضا فإن طلب شفاعته ودعائه واستغفاره بعد موته وعند قبره، ليس مشروعا عند أحد من أئمة المسلمين، ولا ذكر هذا أحد من الأئمة الأربعة وأصحابهم القدماء، وإنما ذكر هذا بعض المتأخرين؛ ذكروا حكاية عن العتبى أنه رأى أعرابياً أتى قبره وقرأ هذه الآية، وأنه رأى فى المنام أن الله غفر له‏.‏ وهذا لم يذكره أحد من المجتهدين من أهل المذاهب المتبوعين، الذين يفتى الناس بأقوالهم، ومن ذكرها لم يذكر عليها دليلاً شرعيا‏.‏

ومعلوم أنه لو كان طلب دعائه وشفاعته واستغفاره عند قبره مشروعا، لكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أعلم بذلك وأسبق إليه من غيرهم، ولكان أئمة المسلمين يذكرون ذلك، وما أحسن ما قال مالك‏:‏ ‏(‏لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها‏)‏ قال‏:‏ ولم يبلغنى عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ‏.‏

فمثل هذا الإمام كيف يشرع دينا لم ينقل عن أحد السلف، ويأمر الأمة أن يطلبوا الدعاء والشفاعة والاستغفار ـ بعد موت الأنبياء والصالحين ـ منهم عند قبورهم، وهو أمر لم يفعله أحد من سلف الأمة ‏؟‏

/ ولكن هذا اللفظ الذى فى الحكاية يشبه لفظ كثير من العامة الذين يستعملون لفظ الشفاعة فى معنى التوسل، فيقول أحدهم‏:‏ اللهم إنا نستشفع إليك بفلان وفلان أى نتوسل به‏.‏ويقولون لمن توسل فى دعائه بنبى أو غيره‏:‏ ‏[‏قد تشفع به‏]‏ من غير أن يكون المستشفع به شفع له ولا دعا له، بل وقد يكون غائباً لم يسمع كلامه ولا شفع له، وهذا ليس هو لغة النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء الأمة، بل ولا هو لغة العرب، فإن الاستشفاع طلب الشفاعة‏.‏ والشافع هو الذى يشفع السائل فيطلب له ما يطلب من المسؤول المدعو المشفوع إليه‏.‏

وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ولا طلب له حاجة بل وقد لا يعلم بسؤاله، فليس هذا استشفاعاً لا فى اللغة ولا فى كلام من يدرى ما يقول‏:‏ نعم هذا سؤال به ودعاؤه ليس هو استشفاعاً به‏.‏ولكن هؤلاء لما غيروا اللغة ـ كما غيروا الشريعة ـ وسموا هذا استشفاعاً أى سؤالا بالشافع صاروا يقولون‏:‏ ‏[‏استشفع به فيشفعك‏]‏ أى يجيب سؤالك به، وهذا مما يبين أن هذه الحكاية وضعها جاهل بالشرع واللغة وليس لفظها من ألفاظ مالك ‏.‏

نعم، قد يكون أصلها صحيحا، ويكون مالك قد نهى عن رفع الصوت فى مسجد الرسول اتباعاً للسنة، كما كان عمر ينهى عن رفع الصوت فى مسجده، ويكون مالك أمر بما أمر اللّه به من تعزيره وتوقيره ونحو ذلك مما يليق بمالك أن يأمر به ‏.‏

/ ومن لم يعرف لغة الصحابة التى كانوا يتخاطبون بها ويخاطبهم بها النبى صلى الله عليه وسلم وعادتهم فى الكلام، وإلا حرف الكلم عن مواضعه، فإن كثيراً من الناس ينشأ على اصطلاح قومه وعادتهم فى الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظ فى كلام اللّه أو رسوله أو الصحابة، فيظن أن مراد اللّه أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ ما يريده بذلك أهل عادته واصطلاحه، ويكون مراد اللّه ورسوله والصحابة خلاف ذلك‏.‏

وهذا واقع لطوائف من الناس من أهل الكلام والفقه والنحو والعامة وغيرهم، وآخرون يتعمدون وضع ألفاظ الأنبياء وأتباعهم على معان أخر مخالفة لمعانيهم، ثم ينطقون بتلك الألفاظ مريدين بها ما يعنونه هم، ويقولون‏:‏ إنا موافقون للأنبياء ‏!‏ وهذا موجود فى كلام كثير من الملاحدة المتفلسفة والإسماعيلية ومن ضاهاهم من ملاحدة المتكلمة والمتصوفة، مثل من وضع ‏[‏المحدث‏]‏ و‏[‏المخلوق‏]‏ و ‏[‏المصنوع‏]‏ على ماهو معلول وإن كان عنده قديماً أزلياً، ويسمى ذلك ‏[‏الحدوث الذاتى‏]‏ ثم يقول‏:‏ نحن نقول‏:‏ إن العالم محدث، وهو مراده‏.‏ومعلوم أن لفظ المحدث بهذا الاعتبار ليس لغة أحد من الأمم، وإنما المحدث عندهم ما كانوا بعد أن لم يكن‏.‏

وكذلك يضعون لفظ ‏[‏الملائكة‏]‏ على ما يثبتونه من العقول والنفوس وقوى النفس‏.‏ولفظ ‏[‏الجن‏]‏ و ‏[‏الشياطين‏]‏ على بعض قوى النفس، ثم يقولون‏:‏ نحن نثبت ما أخبرت به الأنبياء وأقر به جمهور الناس من الملائكة والجن والشياطين‏.‏/ ومن عرف مراد الأنبياء ومرادهم علم بالاضطرار أن هذا ليس هو ذاك، مثل أن يعلم مرادهم بالعقل الأول، وأنه مقارن عندهم لرب العالمين أزلا وأبداً، وأنه مبدع لكل ما سواه، أو بتوسطه حصل كل ما سواه‏.‏والعقل الفعال عندهم عنه يصدر كل ما تحت فلك القمر، ويعلم بالاضطرار من دين الأنبياء أنه ليس من الملائكة عندهم من هو رب كل ما سوى الله، ولا رب كل ما تحت فلك القمر، ولا من هو قديم أزلى أبدى لم يزل ولا يزال‏.‏

 ويعلم أن الحديث الذى يروى ‏(‏أول ما خلق اللّه العقل‏)‏ حديث باطل عن النبى صلى الله عليه وسلم مع أنه لو كان حقا لكان حجة عليهم، فإن لفظه ‏(‏أول ما خلق الله العقل‏)‏ بنصب الأول على الظرفية ‏(‏فقال له‏:‏ أقبل، فأقبل‏.‏ثم قال له‏:‏ أدبر، فأدبر‏.‏فقال‏:‏ وعزتى ما خلقت خلقًا أكرم علىَّ منك، فبك آخذ، وبك أعطى، وبك الثواب وبك العقاب‏)‏ وروى ‏(‏لما خلق الله العقل‏)‏ فالحديث لو كان ثابتًا كان معناه أنه خاطب العقل فى أول أوقات خلقه، وأنه خلق قبل غيره، وأنه تحصل به هذه الأمور الأربعة لا كل المصنوعات‏.‏

و‏[‏العقل‏]‏ فى لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلا، يراد به القوة التى بها يعقل، وعلوم وأعمال تحصل بذلك، لا يراد بها قط فى لغة‏:‏ جوهر قائم بنفسه، فلا يمكن أن يراد هذا المعنى بلفظ العقل‏.‏مع أنا قد بينا فى مواضع أخر فساد ما ذكروه من جهة العقل الصريح، وأن ما ذكروه من المجردات والمفارقات ينتهى أمرهم فيه إلى إثبات النفس التى تفارق البدن بالموت، وإلى إثبات ما تجرده النفس من المعقولات القائمة بها؛ فهذا منتهى ما يثبتونه من الحق فى هذا الباب ‏.‏

/والمقصود هنا‏:‏ أن كثيراً من كلام الله ورسوله يتكلم به من يسلك مسلكهم، ويريد مرادهم لا مراد الله ورسوله، كما يوجد فى كلام صاحب ‏[‏ الكتب المضنون بها‏]‏ وغيره، مثل ما ذكره فى ‏[‏اللوح المحفوظ‏]‏ حيث جعله النفس الفلكية، ولفظ ‏[‏القلم‏]‏ حيث جعله العقل الأول، ولفظ ‏[‏الملكوت‏]‏ و‏[‏الجبروت‏]‏ و‏[‏الملك‏]‏ حيث جعل ذلك عبارة عن النفس والعقل، ولفظ ‏[‏الشفاعة‏]‏ حيث جعل ذلك فيضا يفيض من الشفيع على المستشفع وإن كان الشفيع قد لا يدرى، وسلك فى هذه الأمور ونحوها مسالك ابن سينا، كما قد بسط فى موضع آخر‏.‏

والمقصود هنا ذكر من يقع ذلك منه من غير تدبر منه للغة الرسول صلى الله عليه وسلم كلفظ القديم، فإنه فى لغة الرسول التى جاء بها القرآن خلاف الحديث وإن كان مسبوقا بغيره، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ‏}‏‏[‏يس‏:‏ 39‏]‏، وقال تعالى عن إخوة يوسف‏:‏ ‏{‏ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ ‏}‏‏[‏ يوسف‏:‏ 95 ‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ‏}‏‏[‏ الشعراء‏:‏ 75، 76 ‏]‏ وهو عند أهل الكلام عبارة عما لم يزل أو عما لم يسبقه وجود غيره إن لم يكن مسبوقا بعدم نفسه، ويجعلونه ـ إذا أريد به هذا ـ من باب المجاز، ولفظ ‏[‏المحدث‏]‏ فى لغة القرآن يقابل للفظ ‏[‏القديم‏]‏ فى القرآن ‏.‏

وكذلك لفظ ‏[‏الكلمة‏]‏ فى القرآن والحديث وسائر لغة العرب، إنما يراد به الجملة التامة، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، / خفيفتان على اللسان، ثقيلتان فى الميزان‏:‏ سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏إن أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد‏:‏ ألا كل شىء ما خلا الله باطل‏)‏، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ‏}‏‏[‏ الكهف‏:‏ 5 ‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ‏}‏ الآية ‏[‏ آل عمران‏:‏ 64 ‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا‏}‏‏[‏ التوبة‏:‏ 40 ‏]‏، وأمثال ذلك، ولا يوجد لفظ الكلام فى لغة العرب إلا بهذا المعنى ‏.‏

والنحاة اصطلحوا على أن يسموا ‏[‏الاسم‏]‏ وحده، و‏[‏الفعل‏]‏ و ‏[‏الحرف‏]‏ كلمة، ثم يقول بعضهم‏:‏ وقد يراد بالكلمة الكلام، فيظن من اعتاد هذا أن هذا هو لغة العرب، وكذلك لفظ ‏[‏ذوى الأرحام‏]‏ فى الكتاب والسنة يراد به الأقارب من جهة الأبوين فيدخل فيهم العصبة وذوو الفروض، وإن شمل ذلك من لا يرث بفرض ولا تعصيب ، ثم صار ذلك فى اصطلاح الفقهاء اسما لهؤلاء دون غيرهم، فيظن من لا يعرف إلا ذلك أن هذا هو المراد بهذا اللفظ فى كلام اللّه ورسوله وكلام الصحابة، ونظائر هذا كثيرة ‏.‏

 ولفظ ‏[‏التوسل‏]‏ و ‏[‏الاستشفاع‏]‏ ونحوهما دخل فيها من تغيير لغة الرسول وأصحابه، ما أوجب غلط من غلط عليهم فى دينهم ولغتهم ‏.‏

والعلم يحتاج إلى نقل مصدق ونظر محقوق ‏.‏

والمنقول عن السلف والعلماء يحتاج إلى معرفة بثبوت لفظه ومعرفة دلالته، كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله‏.‏فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية ‏.‏

/ونصوص الكتاب والسنة متظاهرة بأن الله أمرنا أن نصلى على النبى ونسلم عليه فى كل مكان، فهذا مما اتفق عليه المسلمون، وكذلك رغبنا وحضنا فى الحديث الصحيح على أن نسأل اللّه له الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه مقاماً محموداً الذى وعده‏.‏

فهذه الوسيلة التى شرع لنا أن نسألها اللّه تعالى ـ كما شرع لنا أن نصلى عليه ونسلم عليه ـ هى حق له، كما أن الصلاة عليه والسلام حق له صلى الله عليه وسلم‏.‏

والوسيلة التى أمرنا اللّه أن نبتغيها إليه هى التقرب إلى الله بطاعته، وهذا يدخل فيه كل ما أمرنا اللّه به ورسوله ‏.‏

وهذه الوسيلة لا طريق لنا إليها إلا باتباع النبى صلى الله عليه وسلم بالإيمان به وطاعته، وهذا التوسل به فرض على كل أحد ‏.‏

وأما التوسل بدعائه وشفاعته ـ كما يسأله الناس يوم القيامة أن يشفع لهم، وكما كان الصحابة يتوسلون بشفاعته في الاستسقاء وغيره، مثل توسل الأعمى بدعائه حتى رد الله عليه بصره بدعائه وشفاعته ـ فهذا نوع ثالث هو من باب قبول اللّه دعاءه وشفاعته لكرامته عليه، فمن شفع له الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا له فهو بخلاف من لم يدع له ولم يشفع له‏.‏

ولكن بعض الناس ظن أن توسل الصحابة به كان بمعنى أنهم يقسمون به ويسألون به، فظن هذا مشروعاً مطلقاً لكل أحد فى حياته ومماته، وظنوا / أن هذا مشروع فى حق الأنبياء والملائكة، بل وفى الصالحين وفيمن يظن فيهم الصلاح، وإن لم يكن صالحاً فى نفس الأمر‏.‏

 وليس فى الأحاديث المرفوعة فى ذلك حديث فى شىء من دواوين المسلمين التى يعتمد عليها فى الأحاديث ـ لا فى الصحيحين ولا كتب السنن ولا المسانيد المعتمدة كمسند الإمام أحمد وغيره ـ وإنما يوجد فى الكتب التى عرف أن فيها كثيراً من الأحاديث الموضوعة المكذوبة التى يختلقها الكذابون، بخلاف من قد يغلط فى الحديث ولا يتعمد الكذب، فإن هؤلاء توجد الرواية عنهم فى السنن ومسند الإمام أحمد ونحوه، بخلاف من يتعمد الكذب فإن أحمد لم يرو فى مسنده عن أحد من هؤلاء‏.‏

ولهذا تنازع الحافظ أبو العلاء الهمدانى والشيخ أبو الفرج ابن الجوزى‏:‏ هل فى المسند حديث موضوع ‏؟‏ فأنكر الحافظ أبو العلاء أن يكون فى المسند حديث موضوع، وأثبت ذلك أبو الفرج وبين أن فيه أحاديث قد علم أنها باطلة، ولا منافاة بين القولين‏.‏

فإن الموضوع فى اصطلاح أبى الفرج، هو الذى قام دليل على أنه باطل، وإن كان المحدث به لم يتعمد الكذب بل غلط فيه؛ ولهذا روى فى كتابه فى الموضوعات أحاديث كثيرة من هذا النوع، وقد نازعه طائفة من العلماء فى كثير مما ذكره وقالوا‏:‏ إنه ليس مما يقوم دليل على أنه باطل، بل بينوا ثبوت بعض ذلك، لكن الغالب على ما ذكره فى الموضوعات أنه باطل باتفاق العلماء‏.‏

/ وأما الحافظ أبو العلاء وأمثاله فإنما يريدون بالموضوع المختلق المصنوع الذى تعمد صاحبه الكذب، والكذب كان قليلا فى السلف‏.‏

أما الصحابة فلم يعرف فيهم ـ ولله الحمد ـ من تعمد الكذب على النبى صلى الله عليه وسلم، كما لم يعرف فيهم من كان من أهل البدع المعروفة كبدع الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، فلم يعرف فيهم أحد من هؤلاء الفِرَق ‏.‏

ولا كان فيهم من قال‏:‏ إنه أتاه الخضر، فإن خضر موسى مات كما بُيِّن هذا فى غير هذا الموضوع، والخضر الذى يأتى كثيراً من الناس إنما هو جِنىٌّ تصور بصورة إنسى أو إنسى كذاب، ولا يجوز أن يكون ملكا مع قوله‏:‏ أنا الخضر، فإن الملك لا يكذب وإنما يكذب الجنى والإنسى‏.‏وأنا أعرف ممن أتاه الخضر وكان جنيا مما يطول ذكره فى هذا الموضع‏.‏وكان الصحابة أعلم من أن يروج عليهم هذا التلبيس‏.‏

وكذلك لم يكن فيهم من حملته الجن إلى مكة وذهبت به إلى عرفات ليقف بها، كما فعلت ذلك بكثير من الجهال والعباد وغيرهم، ولا كان فيهم من تسرق الجن أموال الناس وطعامهم وتأتيه به، فيظن أن هذا من باب الكرامات، كما قد بسط الكلام على ذلك فى مواضع ‏.‏

وأما التابعون فلم يعرف تعمد الكذب فى التابعين من أهل مكة والمدينة والشام والبصرة، بخلاف الشيعة، فإن الكذب معروف فيهم، وقد عرف الكذب بعد هؤلاء فى طوائف‏.‏

/وأما الغلط فلا يسلم منه أكثر الناس، بل فى الصحابة من قد يغلط أحياناً وفيمن بعدهم ‏.‏

ولهذا كان فيما صنف فى الصحيح أحاديث يعلم أنها غلط، وإن كان جمهور متون الصحيحين مما يعلم أنه حق‏.‏